«استراتيجيات الخطاب» أو مواقعُ الخطاب وخطَطُه : وهو جزء من درس خطط الخطاب، يتعلقُ بأنواع الخطط
في تحليل الخطاب:
استراتيجيات الخطاب، أو خطط الخطاب ومواقعه
Stratégie de Communication / Stratégie de Discours
***
أولاً : مِنْ مَواقعِ الخطاب وخططِه، ما يُمكن تسميتُه بالتَّخطيط اللّغويّ، وهو اختيارُ الكلماتِ والحروف والتّراكيبِ التي تُوافقُ المقاصدَ حّتى تحصلَ بَلاغةُ المَعْنى بتحقُّقِ بَلاغةِ اللفظِ؛ ومن ذلك اختيار الحذفِ بَدَل الذّكرلأنّ الحذفَ لِما هو مَعْلومٌ، ولأنّ تعمُّدَ ذكرِ المحذوفِ سيُثقلُ اللفظَ والمَعْنى، فحذفُ المَعْلومِ جائزٌ أو مُتعيِّنٌ.
وعَكْسُه التَّكْرارُ فقَد يَكونُ تَخطيطُ الكَلامِ مبنياً على تَكرارِ الكلماتِ أو إعادةِ ذكْرِها مرَّةً بعدَ أولى؛ لأنّ في التّكرير تَقْريراً وتثبيتاً وتَمكيناً
ويُقاسُ على الحذف والتَّكْرارِ ما لا يَكادُ يُحصَى من الوُجوه اللّغويّة والأساليبِ البلاغيّةِ التي يعمدُ إليْها المتكلّمُ؛ فتلك هي البلاغَة.
وبعدَ خطَّتَيْ الحذف والتَّكرارِ وما والاهُما من الخطط اللغوية أو المَواقعِ اللّغويّة، ننتقلُ إلى مُعالَجَةِ موقعَيْن من هذه المَواقع، من خلال النّظرِ في بعض نصوص القرآن الكريم:
موقع التّلميح Stratégie d’ Insinuation / insinuation strategy
وموقع التضامن أو التعاون Stratégie de Coopération / Cooperation strategy
نلاحظُ الموقعَيْن اللذَيْن اتَّخذَهُما المتكلّمُ في حوارِه، أو أُمِرَ أن يتَّخذَهُما، في قولِه تعالى:
« قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّماواتِ والأرْضِ قُلِ اللهُ وإنّا أو إيّاكُم لَعَلى هُدىً أو في ضلالٍ مُّبينٍ» سبأ:24
وإليكم تفصيل الموقعَيْن [التلميح والتعاوُن] :
1- التلميح:
عُطِفَت جملةٌ على جملةٍ في الآيَة الكريمَة: عطفَت جملة [وإنّا أو إيّاكم] على جُملةِ الاستفهام، وفيها إبرازُ المَقْصدِ الخَفيّ بطريقة بَليغةٍ [وهذا تَلْميح] تُوقِع الخصمَ في شَرَكِ المَغلوبيّة وذلكَ بحَصرِ حالتي الفَريقَيْنِ المُتَجادلَيْنِ بينَ موافَقَة الحقّ والهُدى ومُوافَقَة الباطلِ والضَلال؛ ولذلكَ جاءَ حرف العطفِ أو ليُفيدَ التّرديدَ بين حالَتَيْن. «وهذا اللّونُ من الكلام يُسمّى الكَلامَ المُنصِفَ، وهو أن لا يَتركَ المُجادلُ لخَصمِه موجِبَ تَغيُّظٍ واحْتدادٍ في الجِدالِ، ويُسمى في علم المُناظرة [الحِجاج] إرخاءَ العنانِ للمُناظِر، ومع ذلكَ فقَرينة إلزامِهم الحُجّةَ قَرينةٌ واضحةٌ.» [التحرير والتنوير].
ومن لَطائفِ الآيَة وبَلاغتها ومواقع المتكلّمِ أنها اشتَمَلت على إيماءٍ [وهذا تلميح] وهو إيماءٌ إلى ترجيح جانبٍ من الجانبَيْنِ في احتمالٍ من أحدِ الاحتمالَيْنِ بطريق مُقابلة الجانبين في التّرتيب؛ فقَد رُتّبَت حالتا الفَريقَيْن بما يُعرَفُ باللّفّ والنّشرِ؛ فقد ذَكَرَ ضَميرَ جانبَ المُتكلم ومَن مَعَه وجانبَ المُخاطَبين، ثم ذَكَر حالَ الهُدى وحالَ الضّلال على ترتيب ذِكْرِ الجانبين، فأومأ
ولمَّحَ إلى أنّ الأوَّلِينَ مُهتَدونَ أو موجَّهون إلى الهدى أمّا الآخرون فهم على ضلالٍ مبينٍ، حصلَ هذا التّرتيبُ كلّه بعدَ الفائدةِ التي حَمَلتْها قَرينةُ الاستفهام، وهذا أيضاً من الإيماءِ
والتّلميحِ والتّعريض، وهو أبلَغُ من التّصريحِ وأوقعُ في النّفسِ.
2- التَّعاوُن أو التّضامُن في بيان الحقّ:
الآيةُ تُعرِبُ عن الغايَة في النَّصَفَة في الجدالِ والاعتدال في الحوارِ والمُحاجَّة؛ فالمُحاوِرُ الرّاغبُ في الوصولِ إلى الحقّ يقول للمشركين: أحدُنا على هدى، والآخر على ضلال، من غيرِ تَعيين؛ ليثير في المُخاطَبينَ التدبر والتفكر في هدوء لا تعتريه عزةٌ بإثم ولا رغبة في جدالٍ ومُحال. فإنما المُحاورُ صلى الله عليْه وسلَّمَ هادٍ ومُعلمٌ، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم، لمجرد الإذلال والإفحام. والجدلُ على هذا النحو المُهذَّب أقربُ إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام، المستكبرين، على الإذعان والاستسلام، وأجدرُ أن يثير التدبر الهادئ والاقتناع العميق. والإنصافُ والاعتدالُ منهجٌ قويمٌ سديدٌ في الحجاج: «قُلْ لا تُسألون عَمّا أجْرَمنا، ولا نُسألُ عَمّا تَعملونَ».
فائدةٌ رائعةٌ:
1- أداةُ الاستفهامِ «مَنْ» فيها ما يُفيدُ التَّنبيهَ على الخَطأ، ولذلكَ أعقب بالجَواب من قِبَلِ السائل بقوله: «قل الله» لإثباتِ أنّهُم لا يُنكرونَ ذلكَ الجوابَ. وفي سورةٍ أخرى: «فَسَيَقولون الله» فهذا جوابٌ يُجيبون به ولا يُنكرونَ خَلْقَ الله، فلا يَملكونَ أن يُماروا في الحقّ البيّنِ ولا أن يَدَّعوا غيرَه.
2- عندَما أورَدَ جانبَ أهلِ الحقّ والهُدى جاءَ بحرف الجرّ المُفيدِ الاسْتِعلاءَ المُسْتَعارَ للتّمكن [على]، وذلِكَ تمثيلاً لحال المهتدي بحال المتصرّف في أموره وأدواته كما يَشاءُلبُلوغِ مَقْصِدِه. وأورَدَ في جانب أهلِ الباطلِ والضّلالِ حرفَ الجرّ [في] الذي يُفيدُ الظّرفيةَ المُستعارَةَ لشدَّة التَّلبُّس بصفة الباطلِ والضّلالِ، «تَمثيلاً لحالهم في إحاطة الضَّلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه.»
والمَقصود أيضاً بمواقع الخطاب وخططه مواطئُ الأقدام التي يتحسسها الشاعرُ أو المتكلمُ البليغُ قبل أن يتكلَّمَ، فيبني قصدَه ومعمارَ كلامه في ضوء ما يُشاهدُه من الحال.. فهو مُتكلمٌ بليغ، ومُهندسٌ بلاغيّ.:
قال ابنُ رَشيق ي حَديثه عن خطط التّدرُّج، من التماس الجِدّ والسلامَة، إلى التحسين والتجويد:
« ليجعل طلبه أولاً للسلامة، فإذا صحت له طلب التجويد حينئذ، وليرغب في الحلاوة والطلاوة رغبته في الجزالة والفخامة، وليجتنب السوقي القريب، والحوشي الغريب، حتى يكون شعره حالاً بين حالين كما قال بعض الشعراء:
عليك بأوساط الأمور؛ فإنها … نجاة، ولا تركب ذَلولا ولا صعبا
فأول ما يحتاج إليه الشاعر بعد الجد الذي هو الغاية، وفيه وحده الكفاية حُسن التّأتّي والسياسة، وعلم مَقاصد القَول؛ فإن نَسبَ ذَلَّ وخَضَع، وإن مَدَحَ أطْرَى وأسَْمَع، وإن هَجا أخلَّ وأوْجَع، وإن فَخَر خَبّ ووضع، وإن عاتب خفض ورفع، وإن استعطف حن ورجع، ولكن غايته معرفة أغراض المخاطب كائناً من كان؛ ليدخل إليه من بابه، ويداخله في ثيابه، فذلك هو سر صناعة الشعر ومغزاه الذي به تفاوت الناس وبه تفاضلوا »
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني (ت.463 هـ)، ت.محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر: دار الجيل، ط.5، 1401هـ-1981م، ج:1، ص:199.