خِطابُ السياسَة الشّرعيّة ومنظور القِيَم:
ممّا ينبغي التّنبيه عليْه في سياقِ الحَديثِ عن أهم أساس من أسس الأخلاق في الخطاب السياسي العربي الإسلامي القديم: أخلاقُ العَدالَةِ في السياسَةِ الشّرعيّةِ، وإعادةُ الاعتبارِ إلى ضرورَةِ إثارةِ النّاحيةِ الخُلُقيّةِ والقيميّةِ أو “مَشْروعيّة الأخْلاق” في كلِّ ما يحدثُ ويجِدُّ في مَيادينِ العلمِ والسّياسةِ والاجتماعِ والاقْتصادِ، وغيْرِها، من قَضايا، وفي ذلِكَ عَوْدٌ إلى سُؤالِ الأخلاقِ والقِيَمِ وما في ذلِك من تحدٍّ وإحْراجٍ تُسبّبُه قَضايا المُجتَمَع ونَوازلُ العَصرِ، على الرّغمِ من اخْتلافِ وجهاتِ النّظرِ في القاعدَةِ التي ينبغي تأسيسُ الأخلاقِ عليْها وتَسْويغُ مَشروعيتِها، أهي قاعدةُ الدّينِ في التأسيسِ، أم هي قاعدَةُ العَقْلِ، أم هي قاعدَة الضّميرِ.
ومَهْما تكُن القاعدةُ التي يُؤسسونَ عليْها مشروعيّةَ القِيَم والأخلاقِ، فقد اتّفقَ كثيرٌ من المفكّرينَ والفَلاسفَةِ على أنّ من خَصائصِ الأخلاقِ أنّها اجتماعيّةٌ تُنظّمُ العَلاقاتِ الاجتماعيّةَ حسبَ مَعاييرَ وقِيَمٍ ذاتِ أصولٍ اجتماعيّةٍ؛ يكونُ العُرفُ فيها والعاداتُ الاجتماعيّةُ مُؤلِّفاً رئيساً من مؤلِّفاتِ الأخلاقِ، خاصّةً عندَما نلحظُ أنّ ما يُعدّ حَسَناً في مجتمعٍ ما أو عصرٍ ما يُعدّ قبيحاً في مجتمعٍ آخَرَ أو عصرٍ آخَرَ، ويَميلُ علمُ الاجتماعِ إلى إخْضاعِ الأخلاقِ إلى الأساسِ العلميّ ما دامَت ظاهرةً من الظّواهرِ الاجتماعيّةِ. ولكنّ الأمرَ يختلفُ، في نظامِ القِيَمِ والأخلاقِ، في الثّقافةِ العربيّةِ الإسْلاميّةِ، والمَقصودُ بالثّقافَةِ “الخطاب الثّقافيّ” العالِم المُدوَّن، على نحوِ ما أنتجَه الفُقهاءُ والأصوليّونَ والمُتكلِّمَةُ والفَلاسفةُ.
عبارةُ “نظام القِيَمِ” جُملةُ القيمِ المُترابِطةِ التي تؤلِّفُ كلاًّ واحداً يُضفي على كلِّ جزءٍ من أجزائه مَعْناه، ويُعطيه بُعدَه أو أبْعادَه، في إطارٍ مُعيَّنٍ تتسلسلُ فيه وفقَ منطقٍ مُعيّنٍ؛ فالشّجاعةُ والصّبرُ والعَدالَةُ والمُساواةُ…قيمٌ يُمكنُ النّظرُ إلى كلّ واحدةٍ منها بمُفردها، ويُمكن النّظرُ إليها في ارتِباطِها داخلَ منظومةٍ معيّنةٍ تُضفي عليْها مَعْنىً خاصّاً يختلفُ قوّةً وشدّةً عن مَعناها مُفردةً،..» .
نظامُ القِيَم والأخلاق، في الثّقافةِ العربيّةِ ألإسلاميّة، له ثَلاثُ صيغٍ: الصيغةُ الأولى تكوّنَت في إطارِ اجتهاداتِ الفُقَهاءِ والمتكلّمينَ، الصّيغةُ الثّانيةُ تكوّنَت من ثَقافَة الأحكامِ السّلطانيّةِ وكتُبِ السياسَة الشّرعيّةِ وكتُب الآدابِ والأخلاقِ عامّةً، الصّيغةُ الثالثَةُ يونانيّةُ الأصلِ تغترِفُ من الفلسفتَيْن الأفلاطونيّةِ والأرسطيّة.
المرجع: في تحليل الخطاب الاجتماعي السياسي، قضايا ونماذجُ من الواقع العربي المُعاصر
عبد الرحمن بودرع
دار كنوز الأردن / 2015
ص: 76-77-78